26 - 06 - 2024

تعا اشرب شاي | موعد مع الله لن نخلفه

تعا اشرب شاي | موعد مع الله لن نخلفه

(أرشيف المشهد)

  • 4-7-2015 | 01:16

جمعتنى بالدكتورة مايسة صداقة من نوع خاص ، فلم نكن نتبادل الزيارات أو المكالمات بصفة منتظمة، كانت بحكم عملها كطبيبة مشغولة دائما بين المستشفى صباحا والعيادة مساء ، فلا  تكاد تجد وقتا كافيا للمجاملات التقليدية.

كانت تكبرنى بسنوات ﻻ تسمح لى أن أناديها بإسمها مجردا رغم انها كانت تلح على أن أفعل إﻻ ان حيائى منعنى، كان أكثر ما لفت إنتباهى فى علاقتى بها أنها كانت رغم مكانتها وسنها ﻻ تترفع أن تقصدنى كلما أهمها أمر ، فتأخذ مشورتى أو تكتفى بالفضفضة إلى دون أن تنتظر حلا منى.

جاءتنى مكالمتها اﻷخيرة وهى تحمل هموما ثقاﻻ، كانت نبرات صوتها حزينة مختنقة بالعبرات، يتهدج صوتها وتتسارع أنفاسها من حين ﻵخر ، كانت الكآبة تملأ كل حروف كلماتها لتعبر عن حزن عميق ورغم ذلك كانت تضيق بها تلك الحروف فلا تسعفها، و تكاد تلهث للبحث عن مفردات تليق بحجم حيرتها و شدة ألمها.

علمت منها أن لها صديقة تدعى وفاء، تكن لها الدكتورة حبا وإحتراما شديدين ، زارتها فجأة ، رحبت بها مايسة كثيرا ، فقد إنقضت فترة طويلة على آخر زيارة لها و راحت تعاتبها بشدة على إنشغالها عنها ، فما كان من اﻷخيرة إﻻ أن إعتذرت بأدب ثم قالت وهى تبتسم : جئت ﻷودعك، سألتها مايسة بإهتمام : إلى أين؟ أجابت وفاء ببساطة شديدة : بينما إبتسامتها ما تزال تملأ وجهها : إلى الله ، ضحكت مايسة وهى تقول : إذن خذينى معك، ثم تساءلت بجدية : حقيقى إلى أين العزم يا وفاء ؟ هل سترحلين عن مصر أم هى رحلة بالداخل؟

أجابت وفاء بثقة : بل رحلة بلا عودة، سنقطعها جميعا وقد إقترب ولله الحمد دورى فى الرحيل، راحلة ﻷقابل وجها كريما وما أجملها من رحلة!!

جاءت إجابة وفاء صادمة رغم أنها لم تفقد إبتسامتها.

لم تصدق مايسة فى البداية إﻻ أن اﻷخيرة اخبرتها بإقتضاب ،أنها مريضة بداء ﻻ يرجى برؤه ، وأكد لها اﻻطباء أن المسألة مسألة شهور وربما أقل.

و بينما كانت مايسة تستمع إليها فى ذهول، طلبت منها تقاريرها الطبية لتطلع عليها، إﻻ أن وفاء ضحكت بإشفاق قائلة : ﻻ عليك، هو موعد مع اﻹله لن نخلفه ، وعلينا أن نحسن إستقباله ، قضى اﻷمر وما جئت إﻻ للسلام، ثم قامت مودعة لتحتضنها بحرارة وهى تهمس إليها: ألتقيك فى جنة الرحمن.

كانت مايسة تحكى لى بذهول وقد راحت تبكى بحرقة ، قالت لى : ما زلت إلى اﻵن أشعر أنها تتحدث عن شخص آخر ، كيف ﻹنسان أن يتحمل مثل هذا العبء!! ما هذا الثبات والتفاؤل والثقة فى الله! ! ماذا بينها وبين ربها؟ ثم أجهشت فى البكاء وهى تقول: كم أوجعت قلبى يا وفاء ، سأفتقدك أيتها الغالية.

غلبنى البكاء أنا اﻷخرى وطيبت خاطرها وأنا أحاول جاهدة أن أنهى المكالمة بإبتسامة ولو مصطنعة ، على وعد منى أن أتصل ﻷطمئن عليها ﻻحقا.

إنقضت أيام بل و شهور ونسيت أمر مايسة تماما.

كنا قد إقتربنا من عيد اﻷضحى عندما تلقيت مكالمة من أحد معارفنا وإذا به يخبرنى بما زلزل كيانى وأصابنى بصدمة عنيفة أفقدتنى إتزانى ، أخبرنى أن مايسة قد ماتت .... نعم هى ليس سواها ، ماتت دون أن أواسيها فى حزنها على صديقتها، ماتت دون أن أودعها كما ودعت هى صديقتها ، تذكرت طلبها التلقائى الذى طلبته من صديقتها دون أن تقصد : خذينى معك يا وفاء .... هل فكرت فى لحظة أن تلك الكلمة الهزلية ستتحول إلى حقيقة بهذه السرعة؟ ماتت دون أن أسألها كيف إستعدت ﻹستقبال ذلك الزائر الثقيل؟ تركتنى وفى عقلى علامات إستفهام ﻻ حصر لها عحزت قدرات عقلى المحدودة عن اﻹجابة عليها .... كيف كان موتها؟ لقد انخلع قلبها خوفا على صديقتها ، فما بالها واﻷمر يخصها؟

فى المساء ذهبت إلى بيتها ، كنت أبحث بعينين زائغتين عن مايسة فى أرجاء فيلتها الفسيحة ، لم أكن قد إستوعبت بعد خبر موتها المفاجئ، فلعلى فهمت اﻷمر خطأ خاصة وأنها لم تتصل بى لتسر إلى بهمها كعادتها ، ربما من أخبرنى بموتها كان يقصد شخصية أخرى ، إﻻ أن ظهور إبنتها قادمة إلى وقد إكتسى وجهها بالحزن واﻷسى قد أزال بداخلى أى بارقة أمل.

ورغم إستغراقى فى الحزن والبكاء ، إﻻ أن حقائبا للسفر كانت معدة بجوار مدفأة ضخمة فى بهو البيت لفتت نظرى بشدة، كانت مجموعة من الحقائب قد تراصت بشكل منظم ، إستنتجت أن بها أغراضا تخص مايسة قد عقدوا العزم على التخلص منها، و على ما يبدو أن الفتاة قد ﻻحظت نظراتى الحزينة إلى تلك الحقائب فأخبرتنى أنهم على سفر ، ثم حكت لى عن سر هذا السفر وإذا بها تفجر المفاجأة.

شعرت مايسة منذ فترة بآﻻم خفيفة فذهبت لعمل أشعة لتشخيص حالتها ، و هنا بدأ الكابوس، كشفت اﻷشعة عن وجود ورما خبيثا فى الكبد وفى مرحلة متقدمة أيضا.

لعل السؤال المنطقى الذى ثار فى عقلى لحظتها هو كيف واجهت مايسة ذلك اﻷمر ﻻ سيما وقد كانت مذهولة من موقف صديقتها؟ إﻻ أن اﻹجابة جاءت على عكس توقعاتى تماما ، لقد فاقت صديقتها فى الثبات والشجاعة ، رفضت مايسة أن تضيع أيامها القليلة المتبقية من رصيدها فى الحياة فى القيام بسفرة غير مضمونة العواقب ﻹجراء عملية زرع كبد ، فهى طبيبة وتعلم جيدا أن نسبة النجاح فى مثل حالتها متدنية للغاية ، فإختارت سفرا آخر رأته اﻷجدى واﻷنفع لحالتها على المدى البعيد، أو على اﻷصح على المدى اللانهائى ، إختارت أن تسافر مع أسرتها ﻵداء فريضة الحج للمرة الثانية فى عمرها القصير، إختارت أن تقابل الله بريئة كيوم ولدتها أمها ، إلا أن اﻷيام لم تمهلها ، فقد إختار لها الله أن يريح جسدها المنهك من مشاق هذه الرحلة ليحتسب لها اﻷجر بإذن الله كاملا غير منقوص دون أن يشق عليها.

لم تكن حزينة كما توهمت، كانت تترقب لقاء الله بشوق وطمع فى رحمته، أوصت أﻻ يقام لها عزاء، إذ كيف تتلقى أسرتها العزاء فى يوم فرحها؟  وشددت على بناتها أﻻ يرتدين اﻷسود فهو على حد وصفها ﻻ يليق بمناسبة كتلك.

ماتت قبل موعد سفرها بيومين لترحل اﻷسرة إلى هناك بدونها ، ولتلقى فى القلب حزنا وعظة.

ﻻ أقصد بالطبع من وراء هذه القصة أن أشق عليكم ، أو أثير أحزانكم أو أستدر دموعكم ﻻ سمح الله ، وإنما كتبتها ﻷحمل إليكم الوجه الآخر من القصة ، فأروع ما خرجت به من تلك اﻷحداث أن بين أيدينا كنزا إسمه الوقت يتيح لنا اﻹنابة والرجوع إلى الله ، يتمنى غيرنا إقتطاع دقائق منه ﻹصلاح أمر دنياه وآخرته ، تعلمت أيضا عمليا أن الله ﻻ يكلف نفسا إﻻ وسعها وحقا صدق الله العظيم،  لقد شق على مايسة أن تستوعب وضع صديقتها وردة فعلها ، وإذا بها تخوض نفس التجربة وتمر بذات المراحل ، لقد إحتملت ما رأته صعبا أو باﻷحرى مستحيلا ، وكأن الله قد أرسل إليها تلك السيدة ليعلمها كيف يكون الصبر وكيف تشعر بلذة اﻹحتساب ، وكيف تتذوق حلاوة اليقين واﻹيمان وما أجملها من حلاوة ، تعلمت كيف أتلقى رساﻻت ربى سبحانه ، فلا شئ عنده متروك للصدفة وكل شئ عنده بمقدار ، أما أروع ما تعلمته فهو أن أحب لقاء الله كى يحب لقائى.

اللهم إرزقنا الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة وﻻ فتنة مضلة.

مقالات اخرى للكاتب

جاء فى مستوى الطالب الضعيف





اعلان